القبائل والدول- تفاعلات معقدة في عالم متغير

المؤلف: محمود سلطان10.27.2025
القبائل والدول- تفاعلات معقدة في عالم متغير

استوقفني كتاب ذو عنوان مثير للاهتمام: "القبائل والولايات: جغرافيا التفاعل الحكومي الدولي"، من تحرير كل من براد أ. بايز وإيرين إتش. فوبيرج. يتناول الكتاب العلاقة الوطيدة بين الدولة والقبائل في أرجاء الولايات المتحدة الأميركية!

يؤكد المحرران في خاتمة الكتاب على فكرة جوهرية، وهي أنه "لا يجوز لأي تفاعل بنّاء بين الدولة والقبليّة أن يكون محصلته النهائية خسارة لأحد الطرفين".

من اللافت للنظر – بالنسبة لشخص من الشرق الأوسط مثلي – أن محور الكتاب يتمحور حول "قبائل" في الولايات المتحدة، الدولة الرائدة في عالم ما بعد الصناعة والأكثر عصرية. وبالغوص في مصادر أخرى، يزداد الشعور بالدهشة والاستغراب، حيث نجد أن هناك ما يقارب 574 قبيلة معترف بها رسميًا، من بين حوالي 4 آلاف قبيلة من السكان الأصليين.

"القبائل الخمس المتحضرة"

وتشير مصادر متنوعة إلى أشهر قبائل أميركا، والتي يُطلق عليها اسم "القبائل الخمس المتحضرة"، وهي: شيروكي، تشيكاساو، تشوكتاو، مسكوكي، وسيمينول. وقد قامت الحكومة الفدرالية بتوفير الإطار القانوني لما يُعرف بـ "السيادة القبليّة في الولايات المتحدة". كما تقدمت ما لا يقل عن 300 قبيلة أخرى بطلبات رسمية للحصول على الاعتراف الفدرالي أو اعتراف الولاية.

يتمتع أفراد القبائل بحقوق المواطنة الكاملة في الولايات المتحدة، مع احتفاظهم في الوقت نفسه بحكوماتهم ومجتمعاتهم وثقافاتهم القبليّة الأصيلة. وبينما تعتمد بعض القبائل على حكومات الولايات والحكومات الفدرالية في إنفاذ القانون، فإن العديد منها يمتلك حكوماته الخاصة وأنظمته القضائية المستقلة، وذلك وفقًا للموقع الرسمي لحكومة الولايات المتحدة ووزارة العدل.

بل إن "ويليام جيمس سيديس" نفسه، في كتابه "القبائل والولايات"، لا يجد غضاضة في الاعتراف بأن "الديمقراطية الأميركية قد تشكلت إلى حد كبير بفضل التأثير العميق للشعوب الأصلية والقبائل المتنوعة التي واجهها المستعمرون الأوروبيون أثناء استيطانهم للقارة"!!. ولكل قبيلة ثقافتها الفريدة واحتياجاتها المتميزة ولغتها الخاصة، حيث يوجد ما يقارب 150 لغة قبلية مختلفة في الولايات المتحدة وكندا.

وهنا، لا يمكننا أن ننسى – على سبيل المثال – أن كلمة "فرنسا" مشتقة من كلمة "فرانكيا"، والتي تعني "موطن الفرنك"، وهم قبائل جرمانية قوية طردت الرومان من بلاد الغال. وتشمل بلاد الغال التاريخية مناطق شاسعة في غرب أوروبا، بما في ذلك فرنسا الحالية وبلجيكا، وجزءًا من ألمانيا وسويسرا وشمال إيطاليا. وقد سكنتها العديد من القبائل التي عُرفت باسم القبائل الغالية، والتي تنحدر أصولها من القبائل الكلتية التي هاجرت من وسط أوروبا، وفرضت سيطرتها على السكان الأصليين في القرن السابع الميلادي.

لطالما كانت فرنسا بوتقة تنصهر فيها العادات المحلية والاختلافات الإقليمية المتنوعة. وبينما لا يزال أغلب الفرنسيين يتحدثون باللغة الفرنسية كلغتهم الأم، إلا أن لغات أخرى، مثل النورمندية والأوكسيتانية والكتالونية والكورسيكية والبريتانية والبشكنشية والألزاسية، لا تزال حية ومتداولة في مناطقها الأصلية.

لقد رأيت أن أستهل بهذه المقدمة المطولة نسبيًا عن مفهوم "القبيلة" في دول "ما بعد الصناعة"، وذلك لأن مجرد ذكر اسم "القبيلة" في عالمنا العربي – المجتمعات التي تمر بمرحلة انتقالية – لا يزال يستدعي قلقًا ثقافيًا عميقًا مرتبطًا بـ "سؤال الهوية"، وقلقًا سياسيًا وثيق الصلة بـ "سؤال الوجود" ذاته. وعادة ما تُصوَّر القبيلة – في الخطاب الحداثوي العربي – على أنها في حالة تعارض جوهري مع "الدولة"، وأنهما نقيضان لا يمكن الجمع بينهما. في المقابل، يرى باحثون غربيون أن هذا الادعاء بالتناقض ما هو إلا محض "أساطير مضللة"، نتجت عن قصور الجهد البحثي، الذي يعتمد على منهج "الحكم أولًا ثم الاستدلال ثانيًا"، مما أدى إلى نتائج تتسم بالارتباك والاضطراب والفوضى.

"الدولة والقبيلة"

على سبيل المثال، دافع فيليب كارل سالزمان في كتابه "القبائل والدول الحديثة: نهج بديل" بحماس لإثبات أن السياسة في جميع دول ما قبل الحداثة تملي قمع القبائل، لأن القبائل المستقلة تتعارض مع الفرضية الأساسية التي تقوم عليها الدولة، ألا وهي المركزية والتسلسل الهرمي "السيطرة". وبالتالي، فإن القبائل المستقلة تقوض سلطة الدولة، بحسب ما جاء في دراسته.

ولعل هذا ما لفت انتباه فيليب س. خوري وجوزيف كوستينر في كتابهما: "القبائل وتشكيل الدولة في الشرق الأوسط"، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات التي تعارض النهج الأحادي الخطي في دراسة القبائل وتكوين الدولة، من خلال التأكيد على أن الدول غالبًا ما تتعايش جنبًا إلى جنب مع القبائل، بل إنها قد تنشئ قبائل لتحقيق أهدافها الخاصة. ويشيران إلى بعض الدراسات التي تؤكد عدم توافق الدول والقبليّة، في حين تُظهر دراسات أخرى المجالات العديدة التي تعمل فيها القبائل فعليًا على تعزيز تشكيل الدولة بدلًا من إعاقته.

ولعل من الأهمية بمكان أن نشير إلى أحدث دراسة تتناول العلاقة بين "الدولة والقبيلة" في الدول العربية بعد ثورات الربيع العربي، وهي دراسة "استقصائية" قيّمة أجرتها أليسون بارجيتر، وهي زميلة زائرة أولى في معهد دراسات الشرق الأوسط في كينجز كوليدج لندن، وذلك في كتابها: "القبائل والدولة في ليبيا والعراق.. من العصر القومي إلى النظام الجديد".

تقول بارجيتر: "أدى تغيير النظام في ليبيا (2011) والعراق (2003) إلى بروز مجموعة من الجهات الفاعلة من غير الدول، بما في ذلك القبائل، التي أثبتت أنها أطراف فاعلة مؤثرة سياسيًا وأمنيًا واجتماعيًا".

ولكن على الرغم من هذا الدور المتزايد والظهور اللافت, لا تزال القبائل غير مفهومة على النحو الأمثل. وكثيرًا ما يتم ربطها بشكل خاطئ بـ "المحيط" أو بأشكال التنظيم السياسي "ما قبل القومية" أو "ما قبل الحداثة"، ويتم تصويرها بشكل نمطي على أنها نقيض للدولة. ومع ذلك، فقد أثبتت القبائل – وهي الكيانات الاجتماعية الأقدم والأكثر إثارة للجدل في منطقة الشرق الأوسط – قدرتها الفائقة على التكيف والتطور، والدخول في علاقات ذات منفعة متبادلة مع مختلف الأنظمة.

واستنادًا إلى مقابلات معمقة مع شيوخ القبائل وممثلي القبائل وأصحاب المصلحة الآخرين، تتتبع أليسون بارجيتر الدور المحوري للقبيلة في ليبيا والعراق ابتداءً من الفترة القومية الثورية وصولًا إلى التحولات المحفوفة بالمخاطر التي أعقبتها. وتكشف كيف نجحت القبائل ببراعة في تطوير حضورها في الهياكل السياسية الوطنية والمحلية؛ وكيف تعاملت وتفاوضت بمهارة مع كبار وسطاء السلطة؛ وكيف أصبحت مزودة خدمات أمنية مهيمنة في حد ذاتها. وخلافًا للتوجهات الحداثية التي تسعى إلى التقليل من أهمية القبيلة، توضح بارجيتر كيف أن القبائل لم تنجُ في ليبيا والعراق فحسب، بل ظلت عنصرًا أساسيًا في الدولة في كلا البلدين".

" تقنيات إدارة الغضب"

ويشيد مايكل نايتس – "زميل جيل وجاي بيرنشتاين" في معهد واشنطن – بهذه الدراسة القيمة, قائلاً: "لقد قدمت لنا بارجيتر تحليلًا شاملًا ومدركًا ومرتكزًا على الأدلة. ليس هناك منطقة محظورة في هذه الحجة الشاملة حول سبب أهمية القبائل وتأثيرها، سواء في الدول القوية أو الضعيفة، وفي المناطق الحضرية أو الريفية على حد سواء.

والحقيقة أنني تعمدت تتبع نماذج من خارج "الجغرافيا العربية" على المستويين الأنثروبولوجي والروايات الإثنوغرافية، والأنظمة القبائلية التي تقوم على أيديولوجيا النسب والقرابة، في نسختها غير العربية؛ لأن علماء الأنثروبولوجيا العرب ينظرون إلى القبيلة على أنها "تهديد" وموروث اجتماعي من حقبة ما قبل الدولة.

ولعل ذلك يقودنا إلى التساؤل الجوهري: أين تكمن المشكلة إذن؟! هل هي في القبيلة أم في الدولة؟!

يقول الجنوب أفريقي "لوك فرانكو كوك": يفترض بنا أن نتعلم ما وصفه بـ"تقنيات إدارة الغضب" والتعامل معه بفعالية. ويشير إلى أنه بمجرد أن يصل العنف أو إساءة استخدام سلطة الدولة من قِبل مجموعة مسيطرة إلى الحد الذي يجعل المجتمعات العرقية غير قادرة على الاعتماد على الدولة لتوفير الحماية لها، فإنه يتعين – والحال كذلك – على كل قبيلة أن تتحمل مسؤولية أمنها.

وفي دراسة أجراها "معهد إعداد معايير المحاسبة الدولية" حول الانتفاضات القبلية في الهند، تم تحديد بعض الأسباب الرئيسية لاندلاعها، مثل إدخال نظام جديد لعائدات الأراضي وفرض الضرائب الباهظة على المنتجات القبلية، وتدفق الوسطاء الطفيليين مثل مُقرضي الأموال، والاستغلال الممنهج من قبل الشرطة، وفقدان الحقوق المتعلقة بالغابات، وغير ذلك من الأسباب المماثلة".

وقد حدث ذلك إبان حقبة الاستعمار البريطاني (1858 مـ - 1947 مـ). بيد أنه في هذه الأيام، تدخلت الدولة باقتراح إلغاء "التعدد القانوني" الذي لا يتناسب مع التركيبة العرقية المعقدة للهند، وفرض قانون موحد على الجميع، بمن فيهم المجتمعات القبلية التي تمثل 8.6% من إجمالي سكان الهند، والمنتشرة في جميع أنحاء البلاد، والتي تتحدث حوالي 700 لغة مختلفة. وقد أدى ذلك إلى تنامي التذمر القبلي مجددًا؛ خوفًا من أن يقوض القانون المقترح التنوع الثقافي الغني والتعددية التي تتميز بها دولة مثل الهند، التي تعد موطنًا لمجموعات سكانية ودينية متنوعة، ولكل منها قوانينها وعاداتها الشخصية المتعلقة بالزواج والطلاق والميراث والمسائل المدنية الأخرى.

ووفقًا لبحث أجراه ستيفن كيفرينج حول الوضع في كينيا في جامعة أتلانتيك الدولية ومقرها الولايات المتحدة في عام 2008، فإن زعماء القبائل يسعون جاهدين لشراء النفوذ وإقامة تحالفات استراتيجية، والبحث عن الدعم الدولي في مراكز القوة، مثل لندن وباريس وواشنطن العاصمة، في إشارة واضحة منه إلى دور التدخل الخارجي في التوظيف الانتهازي للقبائل لتحقيق أغراض سياسية.

موروث اجتماعي

وفي هذا السياق، حمّل الموقع الرسمي لوزارة العدل الأميركية الحكومة الفدرالية المسؤولية المباشرة عن ارتفاع معدلات البطالة، ومعدلات إدمان الكحول وتعاطي المخدرات، وتدني مستويات التعليم، وارتفاع معدلات الانتحار والجريمة في المناطق القبلية.

إذًا، فالقبيلة هي موروث اجتماعي عريق أقدم من الدولة وأسبق عليها، وهي تستبطن معنى المواطنة على المستوى القومي، وذلك في ظل وجود نظام عدالة حقيقي (التوزيع العادل للثروة)، يحترم التقاليد الراسخة التي تمثل نماذج قسر اجتماعي متينة، ويعتبر الخارج عليها شخصًا "منبوذًا" يفقد احترام القبيلة، وفي ظل وجود أحزاب سياسية حقيقية تتنافس بشفافية على أساس الأفكار وتقاسم السلطة بشكل عادل.

وفي جوهر الأمر، تشغل الممارسات القبلية فراغًا كبيرًا يخلقه عادةً غياب المؤسسات الديمقراطية القوية، أو ضعف الأداء السياسي الرسمي لـ "المركز/العاصمة". فيتحول الأطراف أي "الهوامش القبلية" إلى مادة خصبة للتلاعب والتوظيف والاستثمار السياسي و"المليشياوي" في مناطق الصراعات الحدودية، وتقوية المراكز المالية لبعض "العصابات" القبلية المحلية التي عادة ما يكون مصدرها من أنشطة غير مشروعة في غالبيتها، وإسناد مهام أمنية أو اقتصادية إليها من هذا الطرف أو ذاك.

القبيلة – في نهاية المطاف – هي تجسيد للنقاء الفطري والطبيعة والجغرافيا. أما انحرافها وتحويلها إلى "هوية موازية" أو إلى "سلطة/قوة" موازية، فيتم عادة بيد الدولة وحدها.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة